من يجلس إلى جوار السائق الفلسطيني محمد زعرب لا يفهم سر صمته الطويل طيلة الطريق، وهذا مخالفا لسلوك السائقين الذين يثرثرون دوما في كل شيء السياسة والطبخ والمرأة،أما الجالس في الكرسي الخلفي من السيارة فيدرك للوهلة الأولى سبب صمته بعد ارتطام عيونه بيافطة بيضاء ملصقة على الكراسي الخلفية مكتوب عليها بالخط الأسود " السائق أصم لا يتكلم قم بالإشارة إليه عند التوقف ".
السائق زعرب من مدينة رفح جنوب قطاع غزة لجأ إلى وضع هذه اليافطة، وذلك لتعريف ركابه باللغة التي يخاطبونه بها حال عدم تمكنه من التحدث إليهم بلغتهم المعروفة.
تعلم السياقة كان حلم زعرب في العقد الثالث من عمره، كلما نظر إلى يدي الرجال تدير مقود السيارة وتحركها يمنة ويسارا، وتسير في الشوارع الواسعة والطرقات محدثة أصوات لا يسمعها، وبسبب إصابته بالصم منذ صغره لأسباب وراثية، أدرك كما أدرك الجميع أن تعلمها سيكون صعبا عليه، إلا انه بعد أن ترك عمله في قطاع الخياطة بالمستوطنات الإسرائيلية التي أخليت في عام،2005 لم يجد له فرصة عمل في غزة التي بالكاد الإنسان السليم أن يجد فيها ذات الفرصة، و قرر أن يتعلم قيادة السيارة رغم عدم معرفته بحروف الهجاء علها تنفعه يوما ما.
وأشارت دراسة صدرت حديثا عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن معدلات البطالة بين الشباب الفلسطيني 51 % في قطاع غزة والضفة الغربية 35% ". ختام زعرب " 31 عاما" زوجة محمد تشير انه كان يعمل طيلة عمره في الخياطة وهي المهنة التي أحبها حتى بعد أن أصبح سائق، ولكن بعد إخلاء المستوطنات الإسرائيلية من قطاع غزة، فقد مصدر دخله الوحيد ولم يجد فرصة عمل بعدها بذات المجال في غزة.
وتضيف:" لم اصدق أن زوجي سينجح في أخذ رخصة القيادة، ولكنه خذلنا جميعا وكان نبيها جد واجتهد وحصل على الرخصة في غضون شهر واحد وهذا ربما لا يفعله الأصحاء منا"
.
يتدخل محمد الذي يأتي بعد اتصال به عبر الجوال :" ويقول بلغة الإشارة وتترجمها زوجته :"قررت أن أتعلم السياقة قبل 4 سنوات لأحفظها للزمن يوم اجلس بلا عمل وما أجد عملا استغلها،وهذا وقتها ".
الفرحة برخصة القيادة لم تكتمل ولم يصبح محمد بعدها مباشرة سائق،إذ لم يستطع العمل على السيارة لأنه لا يملك ثمن شرائها من ناحية،كما أن أحدا لن يجازف و يعطيه سيارته لقيادتها بسبب إعاقته، والأهم أن قرار القيادة قوبل بالرفض القاطع من أسرته خوفا عليه من حوادث هو في غنى عنها.
بعد أربع سنوات تحرر حلم محمد من قيوده وذلك بعد أن أخذت زوجته نصيبها من ميراث أسرتها فكان لمحمد ما تمنى تقول ختام :" قبل سبعة أشهر حصلت على مبلغ من المال من نصيبي من ميراث من أسرتي فكرنا في إقامة مشروع يدر علينا دخلا،ولان غزة تئد المشاريع في مهدها بحكم ظروفها المتقلبة، وجدت السيارة أسلمها،وتتابع :" ففكرت في شراء سيارة نؤجرها لشخص للعمل عليها وبعد مرات عديدة تعطلت السيارة وكنا نصطدم بعدم إخلاص ووفاء السائقين الذين يعملون عليها.
وتتابع بوجه بشوش" فكرت كثيرا في بيع السيارة، لكن زوجي رفض وقرر أن يعمل هو عليها". وتضيف:" رفضنا جميعنا ذلك خوفا عليه بسبب إعاقته، ولكنه صمم، وأمام إصراره رضخنا له مجبرين وفي ذات الوقت قلقين عليه ".
وتوضح،في بداية عمله كنا بكل لحظة نخاف عليه وأبقى قلقه عليه خاصة من أن يحدث له مكروه وأكون السبب في ذلك، هذا الإحساس يراودني حتى الآن بعد هذه المدة من العمل.
اللغة اول عائق
أما كيف تغلب محمد على الصعوبات الخاصة بتعامله مع الناس فانه بحسب قوله :" أدرك أن اللغة ستكون أول عائق في ذلك لذا طلب من أخته أن تكتب له يافطة بخط واضح تشير إلى انه لا يتكلم وان الإشارة هي اللغة التي يجيدها.
ولان كثيرون لا يدركوا لغة الإشارة فانه بحسب إشارات يديه التي ترجمتها زوجته قال:" بداية اخترت خط معروف من بيتي إلى مكان محدد لنقل الركاب إليه على ألا يدخل في طرق فرعية أو أماكن يصعب على الركاب توصيفها له.
ويضيف :"بعد إن اجتزت هذه المرحلة قطعت مسافة أطول من خان يونس لرفح على طريق الجامعة وهذه المناطق محددة بدقة ".
على الرغم من تطمينات محمد لزوجته أن لا شيء يزعجه في هذه المهنة التي أحبها، إلا أنها تبقى قلقة عليه وتحاول في كل فترة وأخرى أن تتصل به بلغة اتفقا عليها لتطمئن أنه لازال بخير.
نظرة إعجاب واحترام
تقول ختام السليمة من الإعاقة التي قررت قبل 10 سنوات الارتباط بمحمد رغم معرفتها بإعاقته :" أن محمد سعيد بعمله وبتعامله مع أصدقائه من السائقين". وتضيف أول مرة ركبت السيارة إلى جواره كنت ارتعش من الخوف، ولكني اطمأننت بعد ذلك، إلا أنني سأبقى قلقة لأن أي مكروه سيصيبه، سأكون أنا في المواجهة مع أهله.
يشير محمد أن أصدقائه من الصم وجيرانه بنظرون إليه بنظرة إعجاب واحترام، بل يتحسرون أنهم لا يقدرون على صنع ما فعله، مقرا بأنه لا يشعر بان هناك صعوبات في التعامل مع الركاب بعد أن اخذ احتياطاته وحصن نفسه من مثل هذه العقبات، ويقول بابتسامة صامتة لا يسمع صوتها:" كثير من الركاب يفضلون أن يركبوا سيارته ليريحوا أنفسهم من ثرثرة السائقين التي تصدع الرأس" بحسب قوله، وهو ما ذهبت إليه منال العقاد من رفح التي كانت تركب السيارة التي يقودها محمد من أن هذا يريح أكثر من كلام السائقين وحشر أنوفهم في كل شيء.
محمد استطاع أن يقهر إعاقته في مجال راهن الكثيرون على عدم قدرته على النجاح فيه، ولا زال الرهان قائمان ولكن إرادته وإصراره أوصلا حلمه إلى النور، فكثير من الأحلام تطوى لأنها لا تمتلك الإرادة التي مكنت محمد من تحقيق حلمه.
المصدر : ميرفت أبو جامع - إيلاف
0 التعليقات:
إرسال تعليق